الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
يلاحظ أن كثيرًا من المسلمين ممن كانوا يحافظون على أنواع كثيرة من الطاعات في رمضان كالذكر والدعاء والصدقة والتبكير إلى الصلوات وغيرها، يهملون هذه الطاعات بعد رمضان ولا يثبتون عليها وهذا الأمر إن استمر له خطورته على إيمان العبد وخاتمته وآخرته.
لذا أمرنا الله بالثبات على الطاعات حتى الممات قال تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 99] وأمرنا أن نسأله عدة مرات اهدنا الصراط المستقيم وهذا الثبات له موانع وله عوامل. إن تجنب الإنسان موانعه وأخذ بعوامله ثبت على الطاعة بإذن الله.
وفيما يلي بيان مختصر- من القران وصحيح السنة- لأغلب هذه الموانع وأهم هذه العوامل، لعل الله عز وجل أن ينفع بها قارئها وكاتبها.
أولا: موانع الثبات على الطاعات:
المانع الأول: طول الأمل، حيث يتولد عنه الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب. وصفاء القلب إنما يكون بتذكر الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال يوم القيامة.
ويحذرنا الله تعالى من طول الأمل فيقول: {ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم} [الحديد: 16]، ويقول جل شأنه: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} [الحجر: 3] أي دعهم يعيشوا كالأنعام ولا يهتموا بغير الطعام والشهوات، وقوله ويلههم الأمل أي يشغلهم طول الأمل والعمر عن استقامة الحال على الإيمان، والأخذ بطاعة الله تعالى.
المانع الثاني: التوسع في المباحات:
لا شك أن التوسع في المباحات من الطعام والشراب واللباس والمراكب ونحوها سبب في التفريط في بعض الطاعات، وعدم الثبات عليها. إذ أن التوسع يورث الركون والنوم والراحة. بل قد يجر هذا التوسع إلى الوقوع في المكروهات، فلا يزال الشيطان يزين للعبد التوسع بقوله: افعل ولا حرج، حتى يقع في المكروهات، فالمباحات باب الشهوات، والشهوات لا تقف عند حد بل قد تقود إلى شر، قال تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه} [طه: 81] فأمر سبحانه بالأكل ونهى عن الطغيان فيه حتى لا تميل النفس إلى البطالة والكسل، وتتقاعس عن العمل وتطلب الراحة ويعجز المسلم عن حملها عليه، وهذا لا يعني تحريم ما أحل الله، فقد كان صلى الله عليه وسلم (يحب العسل والحلواء) (ويأكل اللحم ويقبل ما يقدم إليه إلا أن يعافه) فاستعمال المباح في التقوي على الطاعة طاعة، ولكن الآفة التوسع والاستكثار، فليكن تناول المباح بقدر.
المانع الثالث: الابتعاد عن الأجواء الإيمانية:
النفس إن لم تشغلها بالحق والطاعة شغلتك بالمعصية، ومن أصول عقيدتنا أن الإيمان يزيد وينقص، فيضعف ويضمحل إذا تعرض العبد لأجواء الإباحية والفجور والتبرج والسفور أو انشغل قلبه بالدنيا وأهلها.لذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن (أحسن البقاع إلى الله المساجد وأبغض البقاع إلى الله الأسواق)، وما ذلك إلا لأن المساجد بيوت الطاعات، ومحل نزول الرحمات، وأساسها على التقوى، والأسواق محل الغش والخداع والربا والأيمان الكاذبة وخلف الوعد والإعراض عن ذكر الله وغير ذلك مما في معناه.
وحينما سأل قاتل المائة العالم: هل له من توبة؟ قال: نعم ومن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، مما يدل على أن البيئة تؤثر في ثبات المسلم على الطاعة.
لذا حث الشرع على مرافقة الصالحين ليعتاد المسلم فعل الطاعات، وترك السيئات، قال تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} [الكهف: 28].
ثانيا: عوامل الثبات على الطاعة:
العامل الأول: الاجتهاد في الدعاء بالثبات:
قال تعالى: {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} [آل عمران: 101] ومن صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم على الطاعة {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} [آل عمران: 8].
ولما كانت قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) (اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك). وكان من دعائه: اللهم اهدني ويسر الهدى لي، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يدعو: اللهم يسرني لليسرى وجنبني العسرى. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليًا أن يسأل الله عز وجل السداد والهدى، وقال له: «اذكر بالسداد تسديدك السهم، وبالهدي هدايتك الطريق».
العامل الثاني: قصر الأمل:
ومعناه العلم بقرب الرحيل وسرعة انقضاء مدة الحياة، وهو من أنفع الأمور للثبات على الطاعات، فإنه يبعث على انتهاز فرصة الحياة التي تمر مر السحاب، ويثير ساكن عزماته إلى دار البقاء، ويحث على قضاء جهاز سفره وتدارك الفائت، ويزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة. فكلما قصر الأمل جد العمل، لأن العبد يقدِّرُ أنه يموت اليوم فيستعد استعداد ميت، فإذا أمسي شكر الله تعالى على السلامة، وقدر أن يموت تلك الليلة فيبادر إلى العمل، وقد ورد الشرع بالحث على العمل والمبادرة إليه، فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر فقال له: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل».
وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال تعالى حاكيًا عن مؤمن آل فرعون: {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار} [غافر: 39].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما لي وما للدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها»، ووصى صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب.
العامل الثالث: تنويع الطاعات والمسارعة إليها وعدم التفريط فيها:
فمن رحمة الله عز وجل بنا أن نوع لنا العبادات لتأخذ النفس بما تستطيع منها، فمنها عبادات بدنية، ومالية وقولية وقلبية وقد أمر الله عز وجل بالتسابق إليها جميعا، وعدم التفريط في شيء منها.
قال تعالى: {فاستبقوا الخيرات} [البقرة: 148] وقال جل شأنه: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26].
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقي أخاك بوجه طلق».
وقال: «ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم».
وقال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة».
ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قد ألمح إلى مثل هذا التنوع وتلك المسارعة حين سأل صحابته: «من أصبح منكم اليوم صائما؟» قال أبو بكر: أنا، قال: «من اتبع منكم اليوم جنازة؟» قال أبو بكر: أنا، قال: «من أطعم اليوم منكم مسكينا؟» قال أبو بكر: أنا، قال: «من عاد منكم اليوم مريضًا؟» قال أبو بكر: أنا. قال صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة». ونلحظ أن الطاعات التي سأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم جمعت أنواعًا من العبادات فمنها عبادات بدنية (كالصيام، واتباع الجنائز، وعيادة المريض) وعبادات مالية (كإطعام المساكين)، وعبادات ذات نفع متعد مثل (عيادة المريض اتباع الجنائز إطعام المساكين). وعبادات ذات نفع قاصر (مثل الصيام).
وبمثل هذا التنوع وتلك المسارعة يثبت المسلم على الطاعة ولا يقطع الملل طريق العبادة عليه، مصداقًا لقوله تعالى: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا} [النساء: 66].
العامل الرابع: التعلق بالمسجد وأهله:
ففي التعلق بالمسجد وأهله ما يعين على الثبات على الطاعات حيث المحافظة على صلاة الجماعة والصحبة الصالحة ودعاء الملائكة، وحلق العلم، وتوفيق الله وحفظه ورعايته.
قال تعالى في الملازمين للمساجد المنشغلين بها عن الدنيا: {ليجزيهم الله أحسن ما عملوا} [النور: 38].
وفي الحث على حلق العلم والصحبة الصالحة يقول صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده».
ويقول صلى الله عليه وسلم: «هم القوم لا يشقى بهم جليسهم» فبين أن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله تعالى به عليهم إكراما لهم، ولو لم يشاركهم في أصل الذكر.
ويبين صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تدعو لمن جلس بعد الصلاة للذكر فيقول: «الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يُحدِث فيه، تقول: اللهم أغفر له اللهم ارحمه».
أما من جلس ينتظر الصلاة فهو في رباط كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط، فذلكم الرباط». فمن كان حاله كذلك فقد استغرق عمره في الطاعة وكان ذلك بمنزلة الرباط.
العامل الخامس: مطالعة قصص الأنبياء وحياة الصحابة والتابعين:
لقد قص الله علينا في كتابه قصصًا طيبة من أخبار الأنبياء والسابقين، ولم تذكر للتسلية والسمر ولكن لننتفع ونتعظ بها. ومن منافعها تثبيت قلوب المؤمنين والمؤمنات والطائعين والطائعات، قال تعالى: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} [هود: 120].
وكثير من الناس تتغير أحوالهم بالاطلاع على سير العظماء والأكابر، خاصة سير السلف الصالح الأوائل الذين ضربوا أعظم الأمثلة في التضحية والعبادة، والزهد والجهاد والإنفاق وغيرها. وكانوا بحق شامة الناس ومقدمي الأمم.
والاطلاع على هاته السير يورث المرء حماسًا عظيمًا، محاولة منه للحاق بركب أولئك الأكابر الأعاظم.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح
العامل السادس: التطلع إلى ما عند الله من النعيم المقيم:
إن من شاهد الآخرة بقلبه مشاهدة يقين أصبح بالضرورة مريدًا لها ساعيًا إليها، فالحياة قصيرة، والجنة سلعة غالية، لذلك تحتاج إلى عمل دائب متواصل قال تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} [الملك: 2]. فبين سبحانه أن مدة الحياة ابتلاء، وأنها منافسة على أحسن العمل، وأن الموت خلق مع الحياة.
ويذكر لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أدنى أهل الجنة منزلة في حديث يُعلي الهمة ويحث على صالح العمل والثبات عليه حيث يقول: سأل موسى ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة فيقول: أي رب: كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له أترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربي. فيقول: لك ذلك ومثله ومثله، فقال في الخامسة رضيت ربي. قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت. غرست كرامتهم بيدي. وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر قال: ومصداقه في كتاب الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17].
نسأله سبحانه أن يستعملنا في طاعته وأن يثبتنا عليها. آمين.
الكاتب: أحمد عبد المجيد مكي.
المصدر: موقع رؤى فكرية.